سورة النساء - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


هناك أكثر من مناسبة واحدة، تربط بين مطلع هذا الدرس؛ وبين محور السورة كلها، وموضوعاتها الأساسية من ناحية؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى.
فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة؛ والتحذير من أهل الكتاب- وهم اليهود بالمدينة- وما جبلوا عليه من شر ونكر؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله- وبخاصة من الناحية الأخلاقية، وناحية التكافل والتعاون، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد..
ولأن الدرس الجديد جولة جديدة، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم- قاعدة التوحيد الخالص- التي تنبثق منها حياته؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة، في كل جانب، وفي كل اتجاه.
وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي، والتنظيم الاجتماعي. وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها؛ والروابط التي تشدها وتوثق بناءها.. فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية- في المجتمع المسلم- أوسع مدى من علاقات الأسرة؛ ومتصلة بها كذلك. متصلة بها بالحديث عن الوالدين. ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين، لتشمل علاقات أخرى؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى؛ ويتعلمها الإنسان- أول من يتعلمها- في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق. ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة.
ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة- العائلة- والأسرة الكبيرة- الإنسانية- وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل، للباذلين وللباخلين.. فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين- كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم- وهي قاعدة التوحيد.. وربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله. التي هي غاية كل نشاط إنساني، في ضمير المسلم وفي حياته..
وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده- في محيطها الشامل- جاءت الفقرة الثانية في الدرس؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر- ولم تكن قد حرمت بعد- باعتبار هذه الخطوة جزءاً من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد. وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد..
حلقات متماسكة بعضها مع بعض. ومع الدرس السابق. ومع محور السورة كذلك.
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم.إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً! وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله، وكان الله بهم عليماً، إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً. فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً}..
هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن إشراك شيء به.. تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر، وهذا النهي، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي. فيدل هذا الربط بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين. فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية.. إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله، ويربط بين جوانبه، ويشدها جميعاً إلى الأصل الأصيل. وهو توحيد الله. والتلقي منه وحده- في هذا النشاط كله- دون سواه. توحيده إلهاً معبوداً. وتوحيده مصدراً للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضاً. لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك- في الإسلام- وفي دين الله الصحيح على الإطلاق.
ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة، والأسرة الإنسانية؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل؛ وكتمان فضل الله- من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين- والتحذير من اتباع الشيطان؛ والتلويح بعذاب الآخرة؛ وما فيه من خزي وافتضاح.. لربط هذا كله بالتوحيد؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً. وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك.
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحساناً. وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب. وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم...}.
إن التشريعات والتوجيهات- في منهج الله- إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة. إنها تنبثق من العقيدة في الله، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة.. ومن ثم يتصل بعضها ببعض؛ ويتناسق بعضها مع بعض؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.
من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية. تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية. والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع؛ والتي تجعل المعاملات عبادات- بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله- والعبادات قاعدة للمعاملات- بما فيها من تطهير للضمير والسلوك- والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة؛ تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله.
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي المنهج الإسلامي، وفي دين الله الصحيح كله، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين، وغيرهم من طوائف الناس. بعبادة الله وتوحيده- كما أسلفنا- ثم في الجمع بين قرابة الوالدين، وقرابة هذه الطوائف من الناس، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده- كذلك- وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس- على النحو الذي بينا من قبل- ليصلها جميعاً بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعاً؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعاً..
{واعبدوا الله.. ولا تشركوا به شيئاً}..
الأمر الأول بعبادة الله.. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد- معه- سواه. نهياً باتاً، شاملاً، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية: {ولا تشركوا به شيئاً}.. شيئاً كائناً ما كان، من مادة أو حيوان أو إنسان أو ملك أو شيطان.. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال..
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين- على التخصيص- ولذوي القربى- على التعميم- ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين- وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي. إذ الأولاد- في الغالب- يتجهون بكينونتهم كلها، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم؛ لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام، غافلون عن التلفت إلى الوراء، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم، الذي لا يترك والداً ولا مولوداً، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض، ولو كانوا ذرية أو والدين!
كذلك يلحظ في هذه الآية- وفي كثير غيرها- أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربى- قرابة خاصة أو عامة- ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة.
وهذا المنهج يتفق- أولاً- مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة، ووجدان المشاركة، يبدآن أولاً في البيت. في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين- فطرة وطبعاً- ولا بأس من ذلك ولا ضير؛ ما دامت توجه دائماً إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور.. ثم يتفق المنهج- ثانياً- مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية: من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة؛ ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة- إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة- فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل: في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقاً ببني الإنسان!
وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربى. ومنهم إلى اليتامى والمساكين- ولو أنهم قد يكونون أبعد مكاناً من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية- ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي- مقدمين على الصاحب المرافق- لأن الجار قربه دائم، أما الصاحب فلقاؤه على فترات- ثم الصاحب المرافق- وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر، الرفيق في السفر- ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله. ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات ملك اليمين ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين.
ويعقب على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر، والبخل والتبخيل، وكتمان نعمة الله وفضله، والرياء في الإنفاق؛ والكشف عن سبب هذا كله، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، واتباع الشيطان وصحبته:
{إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله. وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً!}
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله- سبحانه- بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله.. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر، والبخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهراً طلباً للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد!
وهكذا تتحدد الأخلاق.
أخلاق الإيمان. وأخلاق الكفر.. فالباعث على العمل الطيب، والخلق الطيب، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والتطلع إلى رضاء الله.. وجزاء الآخرة. فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه. وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء.. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس. وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة، فضلاً عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل. وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء، والبخل والتبخيل، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص!
والتعبير القرآني يقول: إن الله {لا يحب} هؤلاء.. والله- سبحانه- لا ينفعل انفعال الكره والحب. إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً}.. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله- إلى جوار المعنى المقصود- وهي ظلال مقصودة؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات، ولهذه التصرفات؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز. وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم: {ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً}!
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة.. وهي صفات تنطبق على اليهود، كما تنطبق على المنافقين.. وكلاهما كان موجوداً في المجتمع المسلم في ذلك الحين.. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين، وعن رسوله الأمين.. ولكن النص عام، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة. فأولى أن نترك مفهومه عاماً. لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق.
وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم؛ وسوءات سلوكهم؛ ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر، وصحبة الشيطان واتباعه؛ ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات، وهو العذاب المهين.. عندئذ يسأل في استنكار:
{وماذا عليهم لو آمنوا بالله، واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ وكان الله بهم عليماً. إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}..
أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر، والإنفاق من رزق الله. والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث، والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم.
ولا خوف من الظلم في جزائهم.. بل هناك الفضل والزيادة، بمضاعفة الحسنات، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب- على كل حال وعلى كل احتمال- وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية، فإن الإيمان- في هذه الصورة- يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر؛ وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقاً؛ إنما هو رزق الله لهم. ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة؛ ويزيدهم من فضله، وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فياله من كرم! وياله من فيض! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران!
ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة:
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً}..
إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلاً عنها أجراً من لدنه عظيماً.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل..
فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيماناً، ولم يقدموا عملاً.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد- هو نبيها الذي يشهد عليها- وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصاً.. ساحة العرض الواسعة. وكل أمة حاضرة. وعلى كل أمة شهيد بأعمالها.. وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون، الكاتمون لفضل الله، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله.. هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا. بكل ما كفروا وما أنكروا. بكل ما اختالوا وما افتخروا. بكل ما بخلوا وبخلوا. بكل ما راءوا وتظاهروا.. هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم. في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به. في مواجهة الرسول الذي عصوه.. فكيف؟!
إنها المهانة والخزي، والخجل والندامة.. مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار..
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر. إنما يرسم صورة نفسية تتضح بهذا كله؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها. ظلال الخزي والمهانة، والخجل والندامة:
{يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً}!
ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية، نحس بكل تلك المعاني، وبكل تلك الانفعالات، وهي تتحرك في هذه النفوس.
نحس بها عميقة حية مؤثرة. كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر.. وصفي أو تحليلي.. وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير.
وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة. وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها:
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا. وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفواً غفوراً}..
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة- التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية- وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضاً.. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضاً. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضاً كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى!
في السويد- وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة- كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لتراً. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة، ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب النبيذ والبيرة فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف..!
أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة 1919 سمي قانون الجفاف! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع الري بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة1933. وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة.
وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن250 مليون جنيه وقد أعدم فيها نفس 300 وسجن كذلك 532335 نفسا وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ببضع آيات من القرآن وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني بين منهج الله ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي؛ حيث نجد الخمر عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر يقول لبيد:
قد بت سامرها وغاية تاجر *** وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة:
إذا أسحب الريط والمروط إلى *** أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي وتطبعه طابعا ظاهرا يقول امرؤ القيس:
وأصبحت ودعت الصبا غير *** أنني أراقب خلات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى تفرفقوا *** يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا *** يبادرن سربا آمنا أن يفزعا
إلخ.
ويقول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي *** وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها *** وأفردت إفراد البعير المعبد
ويقول الأعشى:
فقد أشرب الراح قد تعلمين *** يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال *** قد طال بالريف ما قد دجن
ويقول المنخل اليشكري:
ولقد شربت من المدامة *** بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني *** رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني *** رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث وفيهم عمر وعلي وحمزة وعبدالرحمن بن عوف وأمثال هذا الطراز من الرجال تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية وتكفي عن الوصف المطول المفصل يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه في رواية كنت صاحب خمر في الجاهلية فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى إذا نزلت آية يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما قال اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر واستمر.. حتى إذا نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.. قال: اللهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}. قال: انتهينا انتهينا! وانتهى.. وفي سبب نزول هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين. وسعد بن معاذ من الأنصار.
روى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود- بإسناده- عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار. فأكلنا وشربنا، حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير (عظم الفك) فغرز بها أنف سعد. فكان سعد مغروز الأنف. وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}.. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار. حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر. عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلاناً قال: فقرأ قل يا أيها الكافرون. ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون! فأنزل الله: {يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع..
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبداً؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة. دون حرب. ودون تضحيات. ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين- حين سمعوا آية التحريم- فمجوها من أفواهم. ولم يبلعوها. كما سيجيء!
في مكة- حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن- وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة:
جاء في سورة النحل:
{ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً}. فوضع السكر وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، وفي مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق الحسن شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد!
ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب- بمعنى أدق- فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليداً اجتماعياً، له جذور اقتصادية.. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة..
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولاً سلطان القرآن..
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية..
بدأ بآية البقرة رداً على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: {يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير، ومنافع للناس.. وإثمهما أكبر من نفعهما..} وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي، وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق..
ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر- رضي الله عنه-: اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر.. عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي!
ثم حدثت أحداث- كالتي رويناها- ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون}.. وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل..
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي قطع عادة الشراب أو كسر الإدمان.. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار. وبينها فترات لا تكفي للشراب- الذي يرضي المدمنين- ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلاً على أن للشراب كذلك أوقاتاً ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحاً ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة..
ومع ذلك.. فقد قال عمر رضي الله عنه- وهو عمر!!!- اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر..
ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب- وفق ترتيب المنهج- للضربة الحاسمة.
فنزلت الآيتان في المائدة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟} وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر.. ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم- حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم. وهم شاربون..
لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه- دون أن يستخدم السلطان!!!
ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟
لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله- سبحانه- فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة..
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء..
ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة!
وملأ فراغها- وهذا هو الأهم- بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء.. وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله.. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها؛ وترفض خمارها وصداعها؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية!
إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية؛ وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره؛ وتمشى في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور..
إن الخمر- كالميسر. كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه الألعاب الرياضية والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون بالمودات والتقاليع.. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية!
إن هذه كلها ليست إلا تعبيراً عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولاً.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانياً.. وليست إلا إعلاناً عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية.. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا.
وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى الجنون المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي.. وإلى الشذوذ..
إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير!
إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء. أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاماً منمقاً جميلاً يبدو أنه يؤلف منهجاً، أو مذهباً، أو فلسفة.. الخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه {ما أنزل الله به من سلطان} فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور!
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟!
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة:
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى- تعلموا ما تقولون- ولا جنباً- إلا عابري سبيل- حتى تغتسلوا...}
كما منعت الآية- الذين آمنوا- أن يقربوا الصلاة وهم سكارى- حتى يعلموا ما يقولون- كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب- إلا عابري سبيل- حتى يغتسلوا...
وتختلف الأقوال في المقصود من عابري سبيل كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه..
فقول: إن المقصود هو عدم قرب المساجد، أو المكث فيها، لمن كان جنباً، حتى يغتسل. إلا أن يكون عابراً بالمسجد مجرد عبور. وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت. فرخص لهم في المرور- وهم جنب- لا بالمكث في المسجد- ولا الصلاة بطبيعة الحال- إلا بعد الاغتسال.
وقول: إن المقصود هو الصلاة ذاتها. والنهي عن أدائها للجنب- إلا بعد الاغتسال- مالم يكن مسافراً. فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي- بلا اغتسال- ولكن بالتيمم. الذي يسد مسد الغسل- عندئذ- كما يسد مسد الوضوء..
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه. لأن الحالة الثانية- حالة السفر- ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك. فتفسير عابري سبيل- بالمسافرين، ينشئ تكراراً للحكم في الآية الواحدة، لا ضرورة له:
{وإن كنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء- فلم تجدوا ماء- فتيمموا صعيداً طيباً.
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفواً غفوراً}..
فهذا النص يشمل حالة المسافر- عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنباً في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر، فيكون في حاجة إلى الوضوء، لأداء الصلاة.
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضاً، فألم به حدث أكبر أو أصغر. أو بمن جاء من الغائط (والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء. أو بمن لامس النساء..
وفي {لامستم النساء}.. أقوال كذلك:
قول: إنه كناية عن الجماع.. فهو يستوجب الغسل.
وقول إنه يعني حقيقة اللمس.. لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة.. وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب، ولا يستوجبه في بعضها. بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالاً:
أ= اللمس يوجب الوضوء إطلاقاً.
ب= اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس. وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس.
ج= اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه- حسب تقديره في كل حالة- أن اللمسة أثارت في نفسه حركة.
د= اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقاً، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة..
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.. على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع.
والذي نرجحه في معنى {أو لامستم النساء} أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل. وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء..
وفي جميع هذه الحالات المذكورة، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة.. حين لا يوجد الماء- وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضاراً أو غير مقدور عليه- يغني عن الغسل والوضوء: التيمم. وقد جاء اسمه من نص الآية.
{فتيمموا صعيداً طيباً}..
أي فاقصدوا صعيداً طيباً.. طاهراً.. والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب. أو حجر. أو حائط. ولو كان التراب مما على ظهر الدابة. أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير. متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به.
وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر. ثم نفضهما. ثم مسح الوجه. ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحاً:
{إن الله كان عفواً غفوراً}..
وهو التعقيب الموحي بالتيسير.
وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور. والمغفرة في التقصير..
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة:
نقف أمام حكمة التيمم. نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها..
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحياناً في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصاً.. وأولى: أن نقول دائماً: إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم. وأنه قد تكون دائماً هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري- في مكانه- أمام النصوص والأحكام الإلهية. بدون إفراط ولا تفريط..
أقول هذا، لأن بعضنا- ومنهم المخلصون- يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه العلم الحديث! وهذا حسن- ولكن في حدود- هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة.
وكثيراً ما ذكر عن حكمة الوضوء- قبل الصلاة- أنها النظافة..
وقد يكون هذا المعنى مقصوداً في الوضوء. ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم. وغير المأمون أيضاً:
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة. والناس يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي. فإذا كانت هذه هي حكمة الوضوء فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضاً!!
وكثيراً ما ذكر عن حكمة الصلاة... تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولاً في مواقيتها. وثانياً في حركاتها. وثالثاً في نظام الصفوف والإمامة... الخ. وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصوداً.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو حكمة الصلاة يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون.
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية. فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فناً من الفنون!
وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام. فعندنا الجندية- مجال النظام الأكبر. وفيها غناء!
وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة. فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيداً عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي!
وهكذا.. إذا رحنا نحدد حكمة كل عبادة. وحكمة كل حكم. ونعلله تعليلاً وفق العقل البشري أو وفق العلم الحديث ثم نجزم بأن هذا هو المقصود.
فإننا نبعد كثيراً عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه. كما نبعد كذلك عن الحد المأمون. ونفتح الباب دائماً للمماحكات. فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم. والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل!
وهنا في موضوعنا الحاضر- موضوع التيمم- يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي مجرد النظافة. وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه الحكمة! فلا بد إذن من حكمة أخرى للوضوء أو الغسل. تكون متحققة كذلك في التيمم..
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها- ربما- كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم- في هذا الجانب- مكان الغسل أو مكان الوضوء..
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئاً من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير..
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات. وتذليل هذه المعوّقات. والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معاً، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء (أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة) وكذلك عند السفر (حتى مع وجود الماء في أقوال)..
إن هذا كله يدل- بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال- على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب (ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم. وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف!)
إنها هذه الصلة بين العبد والرب. الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها. لأنه- سبحانه- يعلم ضرورتها لهذا العبد. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولا يناله من عبادة العباد شيء. إلا صلاحهم هم. وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم. والإشراق في كيانهم؛ والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم.. والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير.
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير:
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}.
فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين. فلا يقول: أو جئتم من الغائط. بل يقول: {أو جاء أحد منكم من الغائط} زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية. ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون!
وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: {أو لامستم النساء} والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى- والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيراً عنه- وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب. ليشير إلى أن الطاهر طيب. وأن النجس خبيث.. وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس..
وسبحان خالق النفوس. العليم بهذه النفوس!


ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها- واليهود من أهل الكتاب خاصة- تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل.. وهي هي.. والمعسكرات المعادية هي هي كذلك! المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة، وفي تقديم سورة آل عمران، وفي تقديم هذه السورة كذلك.
ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية. معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها.. ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة. فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية؛ ومحو الملامح الجاهلية- في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية- وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع.. كل ذلك لم يكن بعيداً عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة؛ وفي الجزيرة عامة.. إنما كان التمهيد الحقيقي لها، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها.. كانت تلك معركة البناء. بناء هذا المجتمع الجديد، على أسس المنهج الإسلامي الجديد؛ كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله، ويتفوق عليها.
وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولاً إلى بناء هذا المجتمع من داخله. بناء عقيدته وتصوراته، وأخلاقه ومشاعره، وتشريعاته وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها، ووسائلهم، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة، وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء.. كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة، سواء بسواء.
لقد كان القرآن فيها جميعاً، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة.. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشى ء فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصوراً للوجود جديداً، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيماً جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين.. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم؛ بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء..
ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقاً عسكرياً أو اقتصادياً أو مادياً على العموم!
بل هو لم يكن قط تفوقاً عسكرياً واقتصادياً- مادياً- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائماً أكثر عدداً، وأقوى عدة، وأغنى مالاً، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك.
ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولاً في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانياً في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر.. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان!
ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث.. ذلك أنه لم يكن اكتساحاً عسكرياً فحسب. ولكنه كان اكتساحاً عقيدياً. ثقافياً. حضارياً كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي- من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها.. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديماً أو حديثاً!
لقد كان تفوقاً إنسانياً كاملاً. تفوقاً في كل خصائص الإنسانية ومقوماتها. كان ميلاداً آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذوراً في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالاً في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.
وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية. بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر اللغة العربية. فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض- قبل الاسلام- ومن ثم سميتها اللغة الإسلامية فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي الإسلام قطعاً!
وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها- لا بلغاتها الأصلية- لكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجاً تبدو فيه الأصالة؛ ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة- غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلاً لهذه العبقريات.
ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولاً؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانياً؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضاً!
لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشاه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة- لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش- جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك!
وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة.
وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال..
منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة.. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله.. وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها؛ وكشف للمنافقين المندسين فيها؛ وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما؛ وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين؛ وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها- أي لقواعد قانون المعاملات الدولية- وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجاً لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي!.. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة.. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير- في هذا الجزء- خاصاً بالنفاق والمنافقين؛ يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار!
وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة- في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغداً في أساسها وحقيقتها.
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل؟ والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً. من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه. ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع- غير مسمع- وراعنا.
ليّاً بألسنتهم، وطعناً في الدين. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيراً لهم وأقوم. ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلاً}..
إنه التعجيب الأول- من سلسلة التعجيبات الكثيرة- من موقف أهل الكتاب- من اليهود- يوجه الخطاب فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر:
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب.. يشترون الضلالة. ويريدون أن تضلوا السبيل}..
لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيباً من الكتاب.. الهداية.. فقد آتاهم الله التوراة، على يدي موسى عليه السلام، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى.. ولكنهم يدعون هذا النصيب. يدعون الهداية. ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة. فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد. لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر، يستحق التعجيب منه والاستنكار.
ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر. بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين. يريدون أن يضلوا المسلمين.. بشتى الوسائل وشتى الطرق. التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران؛ والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك.. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون!
وفي هذه اللمسة: الأولى، والثانية، تنبيه للمسلمين وتحذير؛ من ألاعيب اليهود وتدبيرهم.. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى. وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام. فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير.. وكان القرآن يخاطبهم هكذا، عن علم من الله، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.
ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين. وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره، إزاء تلك المحاولة:
{والله أعلم بأعدائكم. وكفى بالله ولياًَ. وكفى بالله نصيراً}..
وهكذا يصرح العداء ويستعلن، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة.. وتتحدد الخطوط..
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة- وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة- ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود. ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة:
{من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويقولون: سمعنا وعصينا. واسمع- غير مسمع- وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين.}..
لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به.
والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد؛ وتبعاً لهذا على صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم. وتحريف الكلم عن المقصود به، ليوافق الأهواء ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون- في هذه الخصلة- اليهود!
ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول. ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع!- مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضاً. إذ يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم:
{واسمع- غير مسمع- وراعنا}..
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع- غير مأمور بالسمع وهي (صيغة تأدب)- وراعنا: أى: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين!
أما في الليّ الذي يلوونه، فهم يقصدون: اسمع- لا سمعت، ولا كنت سامعاً!- (أخزاهم الله). وراعنا يميلونها إلى وصف الرعونة!
وهكذا.. تبجح وسوء أدب، والتواء ومداهنة، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه..
إنها يهود!!!
وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيباً منه. ويطمعهم- بعد ذلك كله- في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم. وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون:
{ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلاقليلاً}..
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها:
{سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا}.
لكان هذا خيراً لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم- بسبب كفرهم- مطرودون من هداية. الله فلا يؤمن منهم إلا القليل.
وصدق قول الله.. فلم يدخل في الإسلام- في تاريخه الطويل- إلا القليل من اليهود.
ممن قسم الله لهم الخير، وأراد لهم الهدى؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى. أما كتلة اليهود، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرناً، حرباً على الإسلام والمسلمين. منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة. وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع، العنيد الذي لا يكف، المنوع الأشكال والألوان والفنون، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله- بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله- إلا كان من ورائه اليهود. أو كان لليهود فيه نصيب!
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب- اليهود- دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم؛ وتهديداً لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغاً لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود:
{يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، مصدقاً لما معكم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت.. وكان أمر الله مفعولاً. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً}..
إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين:
{يا أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزلنا، مصدقاً لما معكم}..
فهم أوتوا الكتاب، فليس غريباً عليهم هذا الهدى. والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقاً لما معهم. فليس غريباً عليهم كذلك. وهو مصدق لما معهم..
ولو كان الإيمان بالبينة. أو بالأسباب الظاهرة. لآمنت يهود أول من آمن. ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح. وكانت لها أحقاد وعناد. وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم: شعب صلب الرقبة!. ومن ثم لم تؤمن. ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي:
{من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. وكان أمر الله مفعولاً}..
وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها؛ وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت (وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب. والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد.
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك.. فهو التهديد الرعيب العنيف؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة!
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: كعب الأحبار فأسلم:
أخرج ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا ابن نفيل. حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن جليس، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبعثه إليه ينظر: أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها...} فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس! ثم أسلمت.
والتعقيب على هذا التهديد:
{وكان أمر الله مفعولاً}..
فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود!
ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديداً آخر في الآخرة. تهديداً بعدم المغفرة لجريمة الشرك. مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به؛ ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً}..
وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركاً.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا: فقد روى القرآن عنهم قولهم: {عزير ابن الله} كقول النصارى {المسيح ابن الله} وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا- فقط- يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان- كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل.
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك- لمن يشاء- ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم. ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركاً به؛ لم يرجع في الدنيا عن شركه.
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا- وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل- ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية.
إنما تفعله وقد فسدت فساداً لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب- والكبائر- فإن الله يغفره- لمن يشاء- فهو داخل في حدود المغفرة- بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة- ما دام العبد يشعر بالله؛ ويرجو مغفرته؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب؛ ولا يقف عليها بوّاب!
أخرج البخاري ومسلم- كلاهما- عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال: «من هذا» فقلت: أبو ذر- جعلني الله فداك- قال: «يا أبا ذر تعال!» قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً» قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: «اجلس ها هنا». فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي: «اجلس هاهنا حتى أرجع إليك» قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عني، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول: «وإن زنى وإن سرق» قال فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله- جعلني الله فداك- من تكلمه في جانب الحرة،؟ فإني سمعت أحداً يرجع إليك. قال: «ذلك جبريل، عرض لي جانب الحرة»، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. «قلت أيا جبريل. وإن سرق وإن زنى؟». قال: نعم. «قلت: وإن سرق وإن زنى؟» قال: نعم. وإن شرب الخمر.
وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده- عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئاً، إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
وأخرج ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عمر قال. «كنا- أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة!»
وروى الطبراني- بإسناده- عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئاً» وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته- سبحانه- ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.
ثم يمضي القرآن- وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة- يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله- كما سبق- وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت- كما سيجيء- كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم؟ بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلاً. انظر كيف يفترون على الله الكذب! وكفى به إثماً مبيناً}..
ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلاً لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتواً كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عملياً- بهذا التحريم والتحليل- وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم. وبذلك اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله. وأكلوا الربا.. ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم.. وعلى الرغم من ذلك كله- وغيره كثير- فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هوداً! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.
فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخاً كاملاً من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة!
والله يعجب رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم. وأمر المسلمين المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب!!
إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله. إنما الله هو الذي يزكي من يشاء. فهو أعلم بالقلوب والأعمال. ولن يظلم الناس شيئاً، وإذا هم تركوا هذا التقدير لله- سبحانه- واتجهوا إلى العمل. لا إلى الادعاء. فلئن عملوا- وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء- فلن يغبنوا عند الله؛ ولن ينسى لهم عمل؛ ولن يبخس لهم حق.
والله- سبحانه- يشهد على اليهود أنهم- إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم- يفترون عليه الكذب. ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها:
{انظر. كيف يفترون على الله الكذب. وكفى به إثماً مبينا}.
وما أرى أننا- الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا؛ ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طرداً.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله- سبحانه- منه رسوله صلى الله عليه وسلم ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله!
إن دين الله منهج حياة. وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة. والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته.. فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة.
والحال هي الحال. وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!!!
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: الجبت والطاغوت وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم- بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم- حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلاً شديداً؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم- الذي يفخرون بالانتساب إليه- وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم. {وكفى بجهنم سعيراً}. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً! أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً. أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا. أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة؛ وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه؛ وكفى بجهنم سعيراً}..
لقد كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت- وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند- ولكن اليهود- الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله- كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان- بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية- وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيباً من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضاً:
{ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}..
قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة- أو عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس. قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس، فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير.
فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله- عز وجل-: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب}... إلى قوله عز وجل: {وآتيناهم ملكاً عظيماً}.. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً. وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً} وكان عجيباً أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائماً من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عوناً لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم إنما يجدون العون والنصرة- دائماً- عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق!
هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعياً منهم ومنطقياً أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً!
وهم يقولونها اليوم وغداً. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها- بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته- لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحياناً- لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث- قد لا يثنون ثناء مكشوفاً على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف- في هذا الزمان- أصبح متهماً، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان..
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحياناً، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تماماً عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة!
ولكنهم لا يكفون أبداً عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه.
ولو للخداع والتمويه!
إنها جبلة واحدة، وخطة واحدة، وغاية واحدة.. هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد، وفقدان النصير. والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين:
{أؤلئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً}..
ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيراً لليهود. فنسأل: وأين وعد الله بأنه لعنهم، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيراً؟
ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس. ليس هو الدول. ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ. إنما الناصر الحق هو الله. القاهر فوق عباده: ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ!
والله ناصر من ينصره.. {ولينصرن الله من ينصره} والله معين من يؤمن به حق الإيمان، ويتبع منهجه حق الاتباع؛ ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم..
ولقد كان الله- سبحانه- يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به، متبعة لمنهجه، محتكمة إلى شريعته. وكان يهوّن من شأن عدوها- اليهود- وناصريهم. وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم- اليهود- لا نصير لهم. وقد حقق الله لهم وعده. وعده الذى لا يناله إلا المؤمنون حقاً. والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم.
فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود. فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين.. فليست هذه هي النصرة.. ولكن كذلك لا يخدعننا هذا. فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! ويوم يكونون مسلمين!
وليحاول المسلمون أن يجربوا- مرة واحدة- أن يكونوا مسلمين. ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير. أو أن ينفعهم هذا النصير!
وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين. وحسدهم لهم على ما أعطاعهم الله من فضله. وهم لم يعطوهم من عندهم شيئاً! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم؛ واستكثار أي عطاء يناله غيرهم؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود:
{أم لهم نصيب من الملك؟ فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً! أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيماً}..
يا عجباً! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه- سبحانه!- هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ ولو كان لهم نصيب لضنوا- بكزازتهم وشحهم- أن يعطوا الناس نقيراً.
والنقير النقرة تكون في ظهر النواة- وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعاً وهم لا يعطون حتى النقير!!!
أم لعله الحسد.. حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلاداً جديداً، وجعل لهم وجوداً إنسانيا متميزاً؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين؛ كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟
وإنه فعلاً للحسد من يهود. مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين..
ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم.. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة- وهي النبوة- وآتاهم الملك كذلك والسيادة. وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين. ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون!
{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه}.
إنه لمن أَلأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود! المتميز الفريد!
ومن ثم يكون التهديد بالسعير، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير:
{وكفى بجهنم سعيراً}..
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء. جزاء المكذبين، وجزاء المؤمنين.. هؤلاء وهؤلاء أجمعين.. في كل دين وفي كل حين؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. إن الله كان عزيزاً حكيماً. والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، لهم فيها أزواج مطهرة، وندخلهم ظلاً ظليلاً}..
... {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}...
إنه مشهد لا يكاد ينتهي. مشهد شاخص متكرر. يشخص له الخيال، ولا ينصرف عنه! إنه الهول. وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد.. كلما.. ويرسمه كذلك عنيفاً مفزعاً بشطر جملة.. {كلما نضجت جلودهم}.. ويرسمه عجيباً خارقاً للمألوف بتكملة الجملة.. {بدلناهم جلوداً غيرها}.. ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد!
ذلك جزاء الكفر- وقد تهيأت أسباب الإيمان- وهو مقصود.
وهو جزاء وفاق:
{ليذوقوا العذاب}..
ذلك، أن الله قادر على الجزاء. حكيم في توقيعه:
{إن الله كان عزيزاً حكيماً}..
وفي مقابل هذا السعير المتأجج. وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت. ليعود الاحتراق من جديد. ويعود الألم من جديد. في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في جنات ندية:
{تجري من تحتها الأنهار}:
ونجد في المشهد ثباتاً وخلوداً مطمئناً أكيداً:
{خالدين فيها أبداً}
ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجاً مطهرة:
{لهم فيها أزواج مطهرة}..
ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم:
{وندخلهم ظلاً ظليلاً}..
تقابل كامل في الجزاء. وفي المشاهد. وفي الصور. وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في (مشاهد القيامة) ذات الإيحاء القوي النافذ العميق.


هذا الدرس يتناول موضوعاً خطيراً.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه؛ متمثلاً في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره..
إن القرآن وهو- ينشئ هذه الأمة وينشئها- وهو يخرجها إلى الوجود إخراجاً. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} إن القرآن وهو ينشئ هذه الأمة من حيث لم تكن؛ وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: {خير أمة أخرجت للناس}. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث: حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معاً.. فقد كانت- على التحقيق- إنشاء وتنشئة، كانت ميلاداً جديداً للأمة؛ بل ميلاداًَ جديداً للإنسان في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة؛ ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت- على وجه التحديد- نشأة! وميلاداً للأمة العربية وللإنسان كله!
وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي- والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية- وهو ديوان العرب، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود والكون والإنسان والخلق والسلوك؛ كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم؛ ولباب ثقافتهم وحضارتهم؛ وكينونتهم كلها بالاختصار..
حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان؛ في ظل القرآن؛ وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان؛ ومن قيم في الحياة الإنسانية؛ ومن نظام للمجتمع؛ ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور..
ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده.. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني..
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت إخراجاً من صنع الله؛ كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة؛ وأغرب إخراج.. فيهي المرة الأولى والأخيرة- فيما نعلم- التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! وتخرج فيها حياة من خلال الكلمات!
ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله..
ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن يخرجها الله بكلماته؛ وقيل أن ينشئها الله بقرآنه؟
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود الإنساني؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6